كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونحن نقول إن المماثلة في القصاص مرعية، ولا نعني بالمماثلة ما نعنيه في ذرات الأمثال، وإنما نعني المماثلة من وجه آخر، وذلك ليعلم أن المماثلة إذا أطلقت، فالمفهوم منها المماثلة من غير الصورة.
فان قال قائل: القيمة مثل في المالية شرعا، ولم يثبت في عرف الشرع أنه اسم للنظير من جنس آخر من النعم، وأن ذلك يسمى مثلا، نعم القيمة مثل للشيء من حيث المعنى، والذي في ذوات الأمثال مثل من طريق الصورة والمعنى، أما البدنة في قتل النعامة فليست مثلا للنعامة لا صورة ولا معنى، فإذا لم يكن كذلك فلا طريق أصلا إلى ما قلناه.
والجواب أن المعتبر في ذلك فهم معنى كتاب اللّه تعالى وتتبع دلالته، فإذا قال تعالى: {فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، كان المثل من النعم، والمثل من النعم لا يجوز أن يكون بطريق القيمة، فإن العبد لا يكون مثلا للعبد في الإطلاق وإن ساواه في القيمة.
نعم، إنالآنطلق القول بالمماثلة بين الجنسين المختلفين، ولكن إذا قيل: مثل ما قتل من النعم، فلا يظهر منه إلا المماثلة بينهما من حيث الصورة، ومن أجل ذلك أجمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على إيجاب البدنة في النعامة، أفيتوهم متوهم أن قيمة النعامة بدنة في زمن الصحابة وفي زمن التابعين، قيمتها في وقت من الأوقات، وهل سمعنا أن قيمة النعامة كانت عند المسلمين قيمة بدنة، قالوا القيمة معنية بهذا المثل فيمالآنظير له، فواجب أن يفهم من اللفظ في الكبير من الصيد ما فهم من الصغير، فإن اللفظ اشتمل عليها اشتمالا واحدا، ومتى اعتبر النظير اختص اللفظ ببعض المسميات.
الجواب: أن الذي قالوه، وتحكم، فإن الآية نص في إيجاب المثل من النعم، فإذا قال اللّه تعالى: {فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، فمعناه بالمثل من النعم، والجزاء من النعم بطريق المماثلة، ولو اقتصر على قوله: {فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}، أو فجزاؤه من النعم، لم يمكن طرح النعم المذكور، وجعل القيمة أصلا، وكذلك هاهنا.
وعلى هذا لا دلالة للآية على صفات الصيود، وإنما وجوب القيمة فيها متلقى من الإجماع.
فإن قيل: سمى اللّه تعالى القيمة مثلا في قوله: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ}.
قلنا: ليس المراد به القيمة، وإنما المراد به القصاص والمماثلة فيه، فإن وجوب ذلك موقوف على الاعتداء، لا على القيمة التي تجب، حيث يجوز له إتلاف مال الغير، ويجب شرط الضمان، فوصف الاعتداء في ضمان القيمة لغو من هذا الوجه، وإنما المراد به القصاص، وهذا بين جدا.
فإن قيل: قال اللّه تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ}.
ولو كان الواجب مثل ما ذكرتموه من البدنة في النعامة من غير اختلاف.
ومثل الكبش في الضبع، فليس ذلك مما يحتاج فيه إلى الارتياء والنظر ومعرفة الشكل، حتى يحتاج فيه إلى ذوي عدل، وإنما يحتاج إلى ذوي العدل فيما يختلف ويتفاوت فيه النظر ويضطرب فيه الرأي، ويدل عليه أنه ذكر الطعام والصيام وليسا مثلا وأدخل أو بينهما وبين النعم، فلابد أن يكون ترتيب الآية: فجزاء مثل ما قتل من النعم أو من الطعام أو الصيام.. وتقديم ذكر النعم في التلاوة، لا يوجد تقديمه في المعنى، بل الكل كأنه مذكور معا، فلا فرق على هذا بين هذا الترتيب الموجود من الآية، وبين أن يقول: فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما ومن النعم هديا، ونظيره، فكفارته إطعام عشره مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، أو كسوتهم أو تحرير رقبة، ولا يقتضي ذلك كون الطعام مقدما على الكسوة، ولا الكسوة مقدمة على العتق، بل الكل كأنه مذكور في لفظ واحد معا، فكذلك قوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم، موصول بقوله:
يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة، أو كفاره طعام مساكين، لم يكن ذكر النعم تفسيرا للمثل.
الجواب أن الذي قالوه غلط، فإن قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، في اعتبار حال الصيد في صغره وكبره، موجب في أدنى النعم بدنة على قدرها، وفي الرفيعة على قدرها، وذلك يقتضي حكم ذوي العدل، وأما قولهم إن اللّه تعالى ذكر الطعام والصيام، قيل لا جرم لا يحسن في الإطلاق أن يقول: فجزاء مثل ما قتل من الطعام أو الصيام أو الصلاة، إن ورد الشرع بالصلاة، فإن الصوم لا يكون مثلا للحيوان في الإطلاق، وكذلك الطعام، فيدل ذلك على أن قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم}، يقتضي إيجاب المثل من النعم، أو الطعام إذا لم يرد المثل، أو عدل ذلك صياما، فالمماثلة معتبره من جهة الخلقة والصورة في النعم، ولا يتحقق ذلك في الطعام والصيام.
قالوا قوله: فجزاء مثل ما قتل، كلام تام غير مفتقر إلى تضمينه بغيره، وهو قوله من النعم يحكم به ذوا عدل منكم.. أو كفاره طعام مساكين، يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل، فلم يجز أن يجعل المثل مضمنا بالنعم، مع استغناء الكلام عنه، لأن كل كلام له حكمه، غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه، ولأن قوله من النعم معلوم أن فيه ضمير إرادة الحرم، فمعناه من النعم يحكم به ذوا عدل منكم، هديا إن أراد الهدي، والطعام إن أراد الطعام، فليس هو إذا تفسير للمثل، كما أن الطعام والصيام ليسا المثل المذكور. والجواب أن قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل}، أن قدر الاقتصار عليه كان مجملا لا يكفي في البيان، فإن المثل يقع على وجوه مختلفة.
وقوله: {من النعم}، بيان ذلك الإجمال لا محالة، ولا يجوز أن يقال من النعم يحكم به ذوا عدل غير مرتب على ما تقدم، وهذا معلوم ضرورة، وإنما كان يستقيم ما ذكروه، أن لو كان صدر الكلام مستقلا بالبيان وفيه شيء آخر، وهو أنالآنثبت المماثلة على الوجه الذي ذكروه وتوهموه، وإنما نقول: يقوم الهدي، ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما، فلا مماثلة مع الهدي بوجه، وإنما المماثلة والمقابلة مع النعم، ثم يقوم النعم ويشتري به طعاما، لأن اللّه تعالى ذكر المماثلة مع النعم، ولم يذكر المماثلة مع الصيد.
نعم، أبو حنيفة يقول: يقوم الصيد دراهم، ثم يشترى بالدراهم طعاما، فيطعم كل مسكين نصف صاع. فأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم، ثم يقوم المثل كما في المثليات يقوم المثل، وتوجد قيمة المثل، فستكون قيمة المثل كقيمة الشيء، فإن المثل هو الأصل في الوجوب وهذا لا غبار عليه.
قوله تعالى: {وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، استدل به قوم على أن العاق لا جزاء عليه، وهو بعيد جدا عن أصول الشرع.
نعم معنى ذلك {وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، بعد قوله عفا اللّه عما سلف، يعني قبل التحريم.
قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ}، احتج به الرازي لأبي حنيفة، في أن المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه، جزاؤه أن عليه قيمة ما أكل، يتصدق به، لأن اللّه تعالى أخبر أنه أوجب عليه الغرم ليذوق وبال أمره، فلو أكل منه وأخذ مثله، فلا يكون ذائقا وبال أمره، وهذا قول بعيد، فإن الصيد عنده ميتة، فإذا أكل الميتة، فمن أين يكون قد وصل إليه مال مثل ما خرج عن ملكه.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ}.
استدل به الرازي على أن على كل واحد من الجماعة جزاء كامل، فإنه تعالى قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ}، وكل واحد يسمى قاتلا، ومثله قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، فاقتضى ذلك إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين، وهذا بعيد، فإن كل واحد منهم ليس قاتلا حقيقة بل هم قتلة، وهم كشخص واحد، وهذا بيناه في مسائل أنفقه.
وقد قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ}، وليس على كل واحد من المشتركين دية كاملة، فاعلمه.
وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا}:
استدل به قوم على أنه يكره للمحرم أكل صيد اصطاده حلال، والأكثرون من العلماء على إباحته، وقد روى أبو الزبير عن جابر قال: عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال فأكلنا منه ومعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
وروى المطلب بن عبد اللّه بن حنطب عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم:
«لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصطادوه أو يصاد لكم».
وفيه أخبار كثيره، غير أن من حرم ذلك لعله تعلق بقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا}، وعمومه يتناول الاصطياد والمصيد نفسه، لوقوع الإسم عليهما.
ومن أباحه ذهب إلى أن الحيوان إنما يسمى صيدا ما دام حيا، فأما اللحم فلا يسمى بهذا الإسم بعد الذبح إلا مجازا، باعتبار استصحاب الإسم السابق.
وقد اختلف في حديث الصعب بن جثامة، أنه أهدى إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم وهو بالأبواء أو غيرها لحم حمار وحشي وهو محرم فرده، فرأى في وجهه الكراهة فقال: ليس بنا رد عليك ولكنا حرم.
وخالفه مالك، فرواه عن الزهري عن عبد بن عبد اللّه عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة، أنه أهدى إلى النبي عليه السلام بالأبواء أو بودان حمار وحش، فرده عليه السلام عليه، وقال إنا ما نرده عليك إلا أنا حرم.
وقال أبو إدريس لمالك: إن سفيان يقول رجل حمار وحش، فقال:
ذاك غلام، ذاك غلام.
ورواه: ابن جريج عن الزهري باسناده كرواية مالك، وقال فيه:
إنه أهدى له حمار وحش.
ورواه معمر عن الزهري مثل رواية مالك، وأنه أهدى له حمار وحش.
وروى الأعمش عن جندب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم حمار وحش وهو محرم، فرده وقال: لو أنا حرم لقبلناه منك.
ويحتمل أنه صيد لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وعندنا ما صيد له فلا يأكل منه، ويدل عليه ما رواه أبو معاوية عن ابن جريج عن خيار بن أبي الشعثاء عن أبيه قال: سئل النبي صلّى اللّه عليه وسلم عن محرم أتى بلحم أنأكل منه؟ فقال: اجتنبوا.
قال أبو معاوية: إن كان صيد قبل أن يحرم فيؤكل وإلا فلا وهو فيما صيد من أجله.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
استدل به قوم على تحريم السؤال عن أحكام الحوادث قبل وقوعها، وهذا منه غلط، فإنه تفقه في الدين، وإنما الآية تنهى عن السؤال عن أشياء.
تتعلق بأسرار إذا كشف لهم عنها ساءهم ذلك، وربما أداهم إلى الكفر به دفعا للخجل، مثل ما روي أن رجلا قام فقال: من أبي؟ فقال: حذافة، بعد أن قال عليه الصلاة والسلام: لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم عن حقيقته، وكان قد حذرهم السؤال، وكان الأولى بهم أن يستتروا بستر اللّه تعالى.
قوله تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ} الآية: 103.
يدل على تحريم قطع منافع الملك من غير نقل إلى غيره، ومن أجله منع الشافعي تعطيل منافع الرهن على خلاف ما قاله أبو حنيفة، ومن أجله منعت الكافر من شراء العبد المسلم في قول، لأن الشراء إذا لم يفد مقصوده من الانقطاع كان نسبيا، ولأجله أوجب العلماء بيع العبد المسلم وتحت الكافر.
قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ}.
ليس ينسخ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد روي عن قيس ابن أبي حازم أنه قال: سمعت أبا بكر رضي اللّه عنه على المنبر يقول: «يا أيها الناس، إنّي أراكم تؤولون هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ}، وإني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا أوشك أن يعمهم اللّه بعقابه».
فأبان ألا رخصة في هذه الآية في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال سعيد بن جبير: أراد به أهل الكتاب الذين يقرون بالجزية على كفرهم ولا يضرنا كفرهم، لأنا أعطيناهم الذمة على أن نخلهم وما يعتقدون، وما يعهدون لنا نقض عهد بإجبارهم على الإسلام، فهذا هو الذي لا يضرنا الإمساك عنه.